Monday, 1 August 2011

‎التاريخ السري‮ ‬لمبارك

أعدت الأقدار لسوزان ثابت أضعافا لما كانت تحلم به فبدلا من أن تكتفي بتلبية رغبتها المراهقة المنشورة بمجلة »الجيل« قبل أكثر من خمسة وخمسين عاما وتجعل منها مضيفة جوية علي طائرة ذات محركين عتيقين أهدت اليها أسوأ ملوك مصر حظا ومكنتها لا من الطائرة أو حتي كل طائرات مصر فحسب بل جعلتها تضع يدها علي البر والبحر والجو بمن فيهم ومن عليهم.. إنها الأقدار تفعل ما تشاء وليس عليها لوم ولا عتاب.
علي بعد كيلو متر باعتبار ما كان قبل عقود كثيرة يقع كفر المصيلحة أحد أشهر قري مصر حتي من قبل ميلاد الرئيس مبارك باعتباره مسقط رأس عبدالعزيز باشا فهمي أحد أهم وأنبغ الفقهاء الدستوريين في تاريخ العالم كله وواحد من ثلاثة اختارهم الشعب المصري مع بدايات وإرهاصات ثورة 19 ليكونوا وفدا لمفاوضة الانجليز وأول من اختلف مع سعد باشا عقب عودتهما من المنفي ليقود حزب الأحرار الدستوريين ـ الامتداد الطبيعي لحزب الأمة وزعيمه مصطفي كامل ـ كما أنه الأب الروحي لدستور 1923 الذي عاد ليصرح علانية أن الشعب المصري لم يرق بعد لمستوي هذا الدستور قائلا عبارته المدوية الخالدة: »إن دستور 23 ثوب فضفاض علي الأمة المصرية« وأخيرا عبر عن يأسه من العمل السياسي عندما عاد في بدايات شيخوخة عمره الطويل الي أحضان قريته منفذا نموذجا عمليا يحتذي به محولا إياها الي أول قرية في الجزء الجنوبي من العالم تتخلص من الأمية والجهل بشكل كامل مقدمة أعلي نسبة من أصحاب التعليم الجامعي في مصر مقارنة بعدد السكان.
في وسط الدلتا حيث الفلاحين البسطاء المتدينين تنتشر أسماء الأشخاص وألقاب العائلات المرتبطة بالدين والأولياء وإذا كانت سواحل الدلتا ـ أو الثغور كما كانت تنعرف في العصور الوسطي وقت الحروب الصليبية ـ تنتشر فيها الأسماء المرتبطة بالغزو والجهاد مثل مجاهد وغازي ومغازي وحربي ومحارب فإن الوسط والأطراف تغلب علي أسمائهم البدوي والدسوقي وقطب والشيخ والعربي وأيضا مبارك الذي حمله الجد الأكبر والأبعد للرئيس السابق والذي نجح أحد أتباعه ويدعي مصطفي مبارك خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر في تكوين مبلغ مالي ضئيل مكنه من شراء قطعة أرض زراعية متواضعة نقلته مع أبناء عمومته ـ ومنهم الجد المباشر للرئيس ـ الي خانة الملاك مما أعطي للعائلة فرصة تقارب المعقولة في أن تتواجد علي الساحة الاجتماعية للقرية قبل حدوث الطفرة التعليمية وتميز العائلة ـ مثل غيرها من عائلات القرية ـ فيها وإن كانت مصادر هذه الثروة شديدة الصغر ومتناهية التواضع تشوبها بعض الشكوك حيث يضم أرشيفي المتواضع بعض الوثائق التي ترجع الي الفترة ما بين عامي 1890 - 1899 التي تتحدث عن المصدر وهو جاويش تركي في الموسيقات العسكرية استقر بعد تقاعده في شبين الكوم عاصمة المديرية وفكر في استثمار بعض مدخراته القليلة في مشروعات ريفية علي رأسها تربية المواشي فعهد الي مصطفي مبارك المذكور في القيام بهذه المهمة ثم توفاه الله فجأة بلا مرض سابق تاركا ورثته محتارين في تتبع عناصر الإرث البسيط ومنها المواشي المودعة في كفر المصيلحة والتي أكد مبارك في التحقيقات أنها كانت مشاركة بينهما وسبق بيعها وتسليم الجاويش التركي نصيبه منها!
الجد المباشر للرئيس كان مدركا وواعيا شأن كل أهالي المنوفية إن فرص البقاء والترقي داخل بلادهم في ظل الحيازات الزراعية الهزيلة ـ اذا تواجدت من الأصل ـ وفرص العمل المحدودة ـ وربما المعدومة ـ أمر مستحيل وأنه لا خروج من هذا المأزق سوي الالتحاق بالجيش مباشرة للجزء الذي لا تمكنه ظروفه الخاصة ـ المالية أو الذهنية ـ من الدراسة وإما التعليم ليعاد توجيهه الي الجيش بدرجات أعلي وأرقي أو الي الوظائف المدنية المختلفة وهذا هو سر اشتهار المنايفة وارتباطهم بالحياة العسكرية التي تضمن لجميع الرتب بدءا من العسكري حتي اللواء وظيفة ثابتة محترمة ومهابة ودخلا مضمونا لذلك وجه السيد مبارك أبناءه جميعا الي التعليم الذي نالوا منه درجات وشهادات متفاوتة ففي حين لم يحصل والد الرئيس سوي علي القدر الأدني الذي جعل منه بالكاد وبعد عمر وظيفي غير قليل »موظفا« بسيطا في حين حصد أشقاؤه ثمارا أنضج ومنهم الدكتور محمد مبارك الذي كان طبيبا بشريا مقلدا ابن عمه المباشر الذي كان رواد صيادلة مصر وهو ابن العم الذي مات عام 74 عن عمر طويل مديد أثناء تقلد الرئيس لمنصب قائد القوات الجوية ولأسباب لا يمكن الجزم بها بدقة يرفض أبناء الرجل ادراج اسم حسني واخوته ووالده في النعي المنشور وقتها بجريدة الأخبار خاليا من التباهي بهذا القريب صاحب المنصب المهم!
عودة الي العم المباشر الدكتور محمد مبارك المتوفي في الخامس من ديسمبر عام 1953 حيث نتصفح جريدة الأهرام بعدها بيومين أي في السابع من نفس الشهر لنجد نعيا جماعيا ضخما لطيار حربي كان زميلا للرئيس السابق استشهد أثناء أحد التدريبات مع مهندس طيران، وهما قاد السرب طلعت توفيق جاد والطالب المهندس أحمد نبيل عامر وهو نعي تتصدره صورة علي عمودين للمرحوم الرئيس الطيب محمد نجيب وبجواره عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة أثناء تشييعهم للجنازة العسكرية تلتها مشاطرات عديدة من جهات عسكرية ومدنية مختلفة كان من بينها مشاطرة من الرئيس جاء فيها: »ينعي قائد السرب حسني مبارك الشهيدين أسكنهما الله فسيح جناته وألهم الله آلهما الصبر« في العمود المجاور مباشرة يعلن الرئيس السابق عن مشاطرته أبناء عمه الأحزان في صيغة تكاد تكون متطابقة للنعي الأول ويقول فيها »ينعي قائد السرب حسني مبارك عمه المرحوم الدكتور محمد مبارك ألهمنا الله وآله الصبر والسلوان« مع إضافة صغيرة عن السابق قال فيها: »وأسكنه فسيح جناته«! ليست المفارقة أو المفاجأة أن يعلن مواطن مصري ـ حتي لو تحول فيما بعد الي رئيس جمهورية ـ عن حزنه لوفاة عمه ولكن المفارقة كل المفارقة والمفاجأة المدوية أن هذا العم رحمة الله عليه كان أحد قيادات »الإخوان المسلمون« في المنوفية ومن كوادرها المهمة بدليل قيام الجماعة بنشر مشاطرة في نفس العمود وبعد سطور قلائل من مشاطرة الرئيس ينسبون فيها الراحل اليهم قائلين: »الإخوان المسلمون بشبين الكوم يحتسبون فقيدهم ـ وليس مجرد الفقيد ـ الكريم الدكتور محمد مبارك ويسألون له الرحمة ولآله الصبر«. من كان يعلم أن هذه الجماعة الغامضة المختلف عليها والتي أكرر شخصيا رفض الكامل لها ولسعيها الي تطبيق معتقداتها بالعنف من كان يصدق أن هذه الجماعة التي سوف تتعرض بعد ثلاثين سنة لأكبر حملة اعتقالات وتعذيبات وتصفيات علي مدي تاريخها الدموي ـ تصديرا واستيرادا ـ سوف يكون الموجه الأعلي والراعي الرسمي للحرب ـ عليها هو ابن شقيق أحد قياداتهم الاقليمية والذي كان نشطا بدليل اندماجه في العمل السياسي الوليد وهو منظمات الشباب وهيئة التحرير التي نعته بدورها في نفس العمود مع جمعية تحفيظ القرآن بشبين الكوم ومع زملاء الملازم أول مهندس ـ وقتها ـ عادل مبارك ابن عم الرئيس الذي مازلنا نحتفظ له بالكثير من الوثائق والحكايات والخبايا.

No comments:

Post a Comment